(مروان الغفوري) |
ثلاث
هزائم تلقاها عبد الملك الحوثي خلال ال ٤٨ ساعة الماضية: سقوط جزء كبير من تعز الغربية
والشمالية في يد المقاومة، سيطرة المقاومة على مناطق الأشراف في مأرب، وتحرير رأس عمران
في عدن. ولم تكن أي من تلك الهزائم بالمسألة الهينة.
منذ
فترة طويلة لم يعد الحوثي قادراً على تحقيق انتصار، وسنشير إلى أسباب ذلك. ومؤخراً
عندما استطاعت ميليشياته الاقتراب من محيط اللواء ٣١ في بير أحمد، شمال عدن، زف الناطق
الرسمي للحوثيين، محمد عبد السلام، الخبر إلى العالم. ولم تكُن تلك عادته مع انتصار
جماعته. كان واضحاً أنهم لم يعودوا قادرين على تحقيق أي نصر. لكن سرعان ما صارت بُشرى
محمد عبد السلام جزءً من الماضي. فقد تمكنت المقاومة الشعبية الجنوبية، مدعومة بتشكيلات
عسكرية وطنية، من استعادة ذلك الجزء من أرض عدن.
دخلت
الجنازات إلى القرى والنجوع في شمال اليمن. قبل أشهر من الآن كان الانضمام إلى ميليشيات
الحوثي يعني امتيازاً في النفوذ، ومالاً. راح الحوثي يفتح الأبواب وحصل على قوائم طويلة.
كما خضع شيوخ الشمال لانتصاراته ومنحوه، كعربون ولاء، قوائم من المجندين. لم يطل الوقت
حتى عادت الجنائز إلى القرى. بلغ الأمر حد استلام قرية المحاقر، سنحان، عددا كبيرا
من التوابيت بلا جثث، مما أنذر بمواجهة بين القرية والحوثيين. صار العمل تحت راية عبد
الملك الحوثي مرادفاً للموت في أماكن بعيدة. الهلاك، والنحيب.
لنتذكر
مشهدين مليئين بالدم: استهداف طائرات التحالف العربي، عشر دول عربية، لمعسكر الأمن
المركزي في صنعاء. كان المئات من المجندين حديثاً قد عادوا من معسكرات التدريب في بني
حشيش، وصاروا جاهزين لاستلام السلاح والمهام القتالية. سقط المئات قتلى وحدثت كارثة
مروعة. وكان واضحاً أن عملاً استخباراتياً دقيقاً وقف خلف العملية. دفع عبد الملك الحوثي
بمئات الشبان إلى المحرقة في وسط النهار. ومثل تلك الكارثة تكررت في أماكن بعيدة وقريبة،
ونزفت الميليشيات على نحو مرير.
تكرر
المشهد بحذافيره في إب. منتصف النهار يهاجم الطيران العربي معسكر الأمن المركزي، أعد
للتدريب، ويسقط مئات القتلى. وبحسب رواية ضابط من المعسكر "قلبت أكثر من ٨٠ جثة
بحثاً عن قريبي". جرى الاستهداف للعنابر والخزانات وساحات التدريب. وبحسب الناجين
فقد كان المعسكر يضم، على الأقل، ١٠٠٠ مجنداً. عادت عربات الحوثيين إلى الشمال بالجثث،
وشكلت الميليشيات طوقاً حول المشافي في إب. ولم يصدر أي بيان رسمي من الجماعة المسلحة
حول ما جرى، ولم تصل أسر الضحايا بطاقات عزاء.
هناك
ثلاث إشارات مهمة في هذا الصدد. الأولى عن حوالي ٢٨ ألف ضابط وجندي من القوات الجوية
والدفاع الجوي عادوا إلى منازلهم. الثانية عن حوالي ٤٠٪ من ضباط وأفراد الحرس الجمهوري
عادوا إلى منازلهم. الثالثة ما جاء في رسالة قيادة الحوثي في ذمار إلى اللجنة الثورية:
المجندون يفرون ويعودون إلى منازلهم والهاشميون يرفضون تجنيد المزيد من أبنائهم.
صار،
بالفعل، العمل مع الحوثي مرادفاً للموت والانتحار. ففي الأسابيع الفائته دفع صالح والحوثي
بكتائب شاردة بلا غطاء جوي في صحراء مأرب وشبوة وعلى الحدود مع السعودية. ولم يكن يمض
سوى وقت قصير حتى يغير عليها الطيران الحربي الحديث، المزود بصور أقمار صناعية أميركية
وفرنسية، ويقضي عليها.
تحولت
عدن إلى "مذبح مولوخ" واقعي، مخيف. بمواجهة قرار صارم من قوات التحالف العربي
بالحيلولة دون سقوط عدن راح عبدالملك الحوثي يزج بالآلاف من رجاله. واحترقت الجثث والعربات
على مدى أكثر من ثلاثة أشهر على بوابات عدن وفي ضواحيها ومديرياتها. نحن هُنا نتحدث
عن قوة جوية كثيفة وحديثة تهاجم عبر تقنيات شديدة التطور، وعن أكثر من ٤ آلاف غارة
جوية. الحقائق التي كُشف عنها بعد تعرض معسكر العبر لحوالي خمسة صواريخ دلتنا على مستوى
مهول من الدمار يمكن أن يحدثه سلاح الجو الحديث بالجيوش البسيطة. ما جعلنا نسأل أنفسنا
عن حقيقة الخسارة البشرية الهائلة التي تعرضت لها كتائب عبد الملك الحوثي خلال الأشهر
الفائتة. أخبرني ضابط من صنعاء قبل يوم واحد: "نظرة واحدة على جدران صنعاء، السيارات،
المحلات .. إلخ" ستعطيك صورة أولية عن المذبحة التي دفع عبد الملك الحوثي أصحابه
إليها".
خلال
أكثر من مائة يوم دمرت مقاتلات التحالف العربي الجيش الذي أعلن ولاءه لعبد الملك الحوثي.
وعبد الملك الحوثي، ذلك، ليس سوى زعيم ديني مسلح. ولم يحدث، فيما نعلم، أن جيشاً سلم
كل شؤونه لزعيم ديني مسلح. ذلك من شأنه أن يحدث خراباً هائلاً في أي بلدة وفي أي زمن.
وقد حدث بالفعل، حدث ذلك في اليمن. النظرية التي ينطلق منها عبد الملك الحوثي تتوازى
مع المشروع الوطني ولا يمكن أن تلتقي معه. فضلاً عن أنها تعود إلى ما قبل ألف عام ولا
يمكنها أن تجري في زمن الحداثة السائلة والهيولى. محاولة تشغيل نظرية قروسطية في العصور
الحديثة، بالاستعانة بالجيوش الطائعة، تتسبب في خراب لا حدود له.
انهارت
القوات الجوية الحوثية، اليمنية سابقاً، خلال ساعات. انهارت القوات البحرية بعد أن
حولت المقاتلات العربية القاعدة البحرية في الحديدة إلى أطلال. دُمر سلاح الصواريخ،
المخازن، خطوط الإمداد، سلاح الدروع، البنية التحتية العسكرية، منشآت وزارة الدفاع،
المطارات العسكرية والمدنية، مئات العربات، المروحيات، الدفاع الجوي، ميادين التدريب.
صارت المعسكرات مكاناً غير آمن. فر كل الجيش من مواقعه وتركها خالية. حاول الحوثي تحريك
ما بقي من القوة في أرجاء اليمن فلم يجد سوى وسيلة واحدة: تحريك وحدات عسكرية في عربات
نقل مدنية، أو عبر أرتال صغيرة سرعان ما تقع فريسة لكمين أو عملية جوية. حدث أن أفني
الجيش اليمني كلياً وما بقي منه صار يعمل كعصابات بسيطة تستخدم أسلحة الكتف.
لقد
انهار بناء ستة عقود من العمل الدؤوب على المؤسسة العسكرية كي تكون لائقة بالدفاع عن
الجمهورية. لكن تلك المؤسسة سرعان ما انضمت لأولى طلائع الملكية القادمة من الجبال
وسلمتها جهد أكثر من نصف قرن من عرق اليمنيين وبؤسهم. ولم تكن النهاية الدرامية المرة
لذلك الجيش أمراً نادراً. الجيش الذي كان يضرب ببياداته في نهاري صنعاء وعدن صار يعمل
كمرتزقة، يلقي المدافع والقنابل على المدن المكتظة امتثالاً لأوامر "أبو حرفشة،
أبو قفشة، أبو عطفة، أبو خصية، أبو حشفة".
مع
مرور الأسابيع في هذه الحرب الهجينة "حرب الحوثيين المناطقية في الجنوب، حرب الحوثيين
الطائفية في الوسط، حرب الحوثيين الإيرانيين مع الخليج" تقلصت قدرات الحوثيين
على الحركة، أولاً، ثم على الصمود ثانياً. تاهوا في الأرض مثل خراف بني إسرائيل الضالة.
وكنتُ كتبتُ بعد خطاب التعبئة العامة "لا يمكنكم أن تكسبوا هذه الحرب".
يهرب
من بقي مع الحوثيين من أماكن المواجهة وتكبر المقاومة الشعبية يوماً بعد يوم. عادت
البيضاء إلى الواجهة، ودخلت صنعاء وذمار سكة المقاومة الشعبية، وتعملقت إب، وتحركت
الرمال من تحت الأقدام. تنظر المقاومة لمشاة الحوثي، ولم يبقَ له سوى مشاة بسلاح الكتف
وبعض الدروع قيد التدمير، فتراهم تائهين وخائفين ومتربصين. أو "مثل الكلاب المتشردة"
إذا استخدمنا الوصف الذي أطلقه عليهم الدكتور خالد باجنيد، وزير العدل.
بالموازاة
تخلت إيران عن الحوثيين وتركتهم لمصيرهم. إيران، بالمعنى الحديث، دولة رثة ولا تقوى
على خوض الصراعات المركبة في أكثر من مكان. هكذا وجد الحوثيون أنفسهم وحيدين في حرب
ضد الكل، وضد أنفسهم. استلمت المقاومة زمام المواجهة وشرعت تدفع العجلة تجاه الجبال،الجهة
الأخرى. اتضحت، يوماً بعد يوم، نواة الجيش الوطني الذي يخوض حرباً طاهرة من عدن حتى
مأرب.
استطاعت
قوات التحالف، وشرفاء الجيش، مع المقاومة الشعبية الذكية والفتية أن تحول دون نشوء
داعش أو القاعدة. وإنه لمن حسن الطالع لليمنيين، إذا كان لا يزال لليمنيين من حسن طالع،
أن القاعدة وداعش لم تبرزا إلى العلن رغم أن الزمن اليمني الراهن زمنهما وبيئة الحروب
بيئتهما. لو تأخر التحالف العربي قليلاً، لو تأخرت المقاومة الشعبية أقل، لو.. لظهر
"لولاء الإسلام، لواء التوحيد، كتيبة المجاهدين، لواء القعقاع" .. إلخ. بدلاً
عن ذلك برزت كتائب الشهيد عبد الرقيب عبد الوهاب. كاد اسم ذلك الشاب، الذي قتل غيلة
في صنعاء نهاية الستينات، أن يختفي. ولم يبق منه سوى صورة كبيرة على مدخل مدينة التربة
من الناحية الجنوبية الغربية لتعز. وليست مصادفة أن تأتي من تلك الجهة تحديدا كتائبه،
بعد نصف قرن من استشهاده، لتفك حصار رمانة المدن اليمنية، تعز. كان الراحل العظيم قد
فك حصار صنعاء عندما وقعت تحت رحمة الملكيين ومرتزقة القبائل.
لم
يعد لدى عبد الملك الحوثي الكثير من الخيارات. فقد تحركت الرمال تحت أقدامه، وبلغت
خسارته حداً هائلاً. أما مشائخ القبائل، الذين يتكون دمهم من خلايا ارتزاق حمراء وصفراء
وزرقاء، فسيجدون أنفسهم عاجزين في القريب العاجل عن إمداده بالمزيد من المحاربين، أولئك
الذين سرعان ما سيصيرون قتلى وستصير زوجاتهم أرامل وأولادهم أيتام. فنحيب ثلاث نساء
في قرية سيكون كافياً لإيقاف حرب تلك القرية.